مشروع الخلافة الحالي.. بمن يرتبط ومن يخدم؟!


الحديث عن أي مشكلة لا بد أن ينطلق من معرفة حقيقية بجذورها وحقيقتها، فالتعريف الخاطئ لأي مشكلة بمثابة تحديد لمسلك خاطئ منذ البداية، وكنتيجة طبيعية فإنه لن يؤدي إلى الوجهة المطلوبة: الهدف المنشود، أو حل المشكلة.

لا نريد لمشكلة ( الغلو والتكفير) أن تعرّف بشكل خاطئ، لأننا لا نريد لها أن تُحل بشكل خاطئ، وكذلك لا نريد التعامل الخاطئ معها: بالقمع والتهديد والتخويف، أو التساهل الزائد، واللين المبالغ فيه، حتى لا تتفاقم وتزداد وتأكل الأخضر واليابس.

ولا نريد في التعامل مع هذه المشكلة أن نضم إليها ما ليس منها، سواءً في المبادئ والأفكار، أو في الشخصيات والجماعات، أو حتى في الأسباب والدوافع؛ وهذا يعني أن يكون حديثنا عنها بالغ الدقة والحذر، حتى نصل إلى نتيجة.

أما أن نتحدث من منطلق الميول الشخصية، والحب والكره للجماعات والأفراد، أو نتحدث دون تمحيص وتدقيق، فإننا نسير بالفعل ولكن في الاتجاه الخاطئ، ونحن نخدع ذواتنا شعرنا أو لم نشعر.

الأوراق التحليلية لمشهد ( الخلافة ) وما سبق الإعلان قبل تغيير الاسم، حاولت ربط مشروع الدولة بجذور مختلفة، على أساس أنها استراتيجية منضبطة سارت عليها الدولة فوصلت إلى هذا المشهد، كما أنها تربط جذور هذا المشروع بأشهر وأكبر قاعدة للعمل الجهادي حالياً وهي: تنظيم القاعدة؛ والذي كانت قيادات الدولة منضوية تحته في بعض الفترات.

يحاول البعض أيضاً ربط فكر (الخلافة) بجهات أخرى: مثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والتي هي جزء أساسي من التعليم الشرعي في السعودية بل وهي الأساس والمنطلق لقيام الدولة السعودية، ويرى – أصحاب هذه الرؤية -  أن التعليم السعودي كان سبباً وجزءاً في نشر الغلو والتكفير، بل قد وصل الأمر إلى بعض المسؤولين للحديث علنا عن اختطاف التعليم في فترة سبقت!.

الجهة الأخرى التي تظهر على السطح: جماعة الإخوان المسلمين، خصوصاً وأن انطلاقة الجماعة وتأسيسها كان قائماً على فكرة إعادة الخلافة، إضافة إلى ما يتهم به أنصارها – وعلى رأسهم سيد قطب – من تكفيرهم للمجتمعات المسلمة وما إلى ذلك، وزد على ذلك الوضع الصعب الذي تعيشه الجماعة الآن بعد الانقلاب عليها في مصر، مما جعل العديد من الحكومات العربية تعلنها جماعة إرهابية، وهذا فتح الباب على مصراعيه لكل مريدٍ من أن ينال منهم ويتهمهم أن يفعل ما دام الأمر في نفس مسلك التوجه الحكومي.

الواضح في الأمر أن العديد من هذه التوجهات أخطأت في تعريف المشكلة وتوجيهها، وهي ما بين محاولات اجتهادية للتفسير، لكنها أخطأت بسبب أسلوب الربط والذي يتضح عند العودة له انعدام الروابط الحقيقية، والجهة الأخرى هي فئة اتخذت مبدأ التشفي وانطلقت من أهواء، أو لأجل مسايرة تيار معين لتكسبه وأتباعه، وقد أخطأت بشكل كبير أيضاً.

ولكي تتضح الصورة أكثر، فكيف يمكن أن نجعل (الخلافة) جزءاً من مشروع القاعدة، فيما أفرادها يجرمون القيادة الرئيسية للقاعدة، ويرون أنها مخطئة، ويرون أن واجباً ولزاماً عليها أن تبايع الخليفة الجديد؟!

في أسوأ الأحوال، فإن هذا يمكن أن يسمى انشقاقاً عن القيادة – في حال سلمنا بتبعية البغدادي الحقيقية سابقاً للقيادة في أفغانستان - ، لكن ربط خطة وسلوك القاعدة الأم بهذه (الخلافة) الوليدة هو محض خطأ!.

مشاهد متكررة حصلت توضح أن هذه (الخلافة) بعيدة كل البعد عن منهج القاعدة ومسلكها في التعاطي مع الأحداث وخصوصاً أحداث سوريا.

طبعاً لست بصدد الدفاع عن القاعدة الأم ومنهجها هنا، فهذا شأن آخر، ما يهم هنا هو محاولة تتبع أثر الخيط للوصول إلى طرفه، وبالتتبع نجد أن أطرافه لا تصل إلى الظواهري ومن معه، فالمسلك مختلف شيئا كثيراً !.


ما هي الروايط التي يتم الربط من خلالها، وهل هي صائبة أم لا ؟!
-          رابط السلفية الجهادية!.
نسبة القاعدة، و ( الخلافة ) إلى السلفية الجهادية، هي نسبة فضفاضة غير دقيقة، ولا تصح مطلقاً أن تكون معياراً كافياً لأن يكون توجههما واحداً ومنطلقهما في التعامل مع الأحداث واحد.
والخلاف قد بدا واضحاً علنياً عندما أمر الظواهري في بداية أحداث الاقتتال والخلاف في سوريا، أمر بإبقاء البغدادي في العراق دون تمديد سلطته لسوريا، لكن الأخير لم يستجب بل إنه خلط ومزج، فتمدد عمله لسوريا ثم لما قامت الأحداث ضد المالكي عاد إلى العراق، ثم عاد ب(الغنائم) ناقلاً إياها إلى سوريا، مختتما المشهد بتنصيب نفسه خليفة للمسلمين!.


والمقصد أن رابط (السلفية الجهادية) وحده غير كافٍ لجعلهما في كفة واحدة، وربط استراتيجيات القاعدة التي تم استنتاجها بما حصل من إعلان (الخلافة) ، بل إن تلك الاستنتاجات نفسها تعد ضرباً من النظريات والافتراضات لا يستدل بها، ولكن يستدل لها!.
زد على ذلك الخلاف العميق الواضح الذي وصل إلى حد الاقتتال بين أتباع الدولة وجبهة النصرة والتي تنتسب أيضاً إلى التيار السلفي الجهادي، فإذا وضعنا القاعدة الأم مع (خلافة البغدادي) في كفة واحدة، كان لزاماً علينا أن نضع الجبهة معهم كذلك، وهذا لا يستقيم ولا يدعمه الواقع إطلاقاً.

-          رابط قتال أمريكا، ومعاداة الغرب
كشعارٍ معلن، فإن هذا الشعار يعلنه القاصي والداني من العرب والمسلمين، وغيرهم كذلك، فلا أحد يتمنى أن تكون للآخرين سطوة عليه تجبره على التصرف كما يحلو لها، بل تسعى كل الدول أن تتعامل مع بعضها البعض بأسلوب العلاقات المشتركة ولكن بندية لا تبعية.
وهذا الشعار يعلنه بشار الأسد كما يعلنه أتباع الحوثي في اليمن إضافة إلى جماعات وحركات أخرى كثيرة، وهي في الواقع ليست إلا جزءاً من خدمة المشروع الأمريكي والغربي، ولا تواجه مصالحه بأي أذى.
فهل يمكن أن يوضع كل هؤلاء في سلة واحدة؟!
حتماً لا يمكن!.. فالعالم كله اليوم صار يميز بين الشعارات الرنانة المجردة، وبين الأفعال والوقائع، وهذا ما يؤكد أن هناك فروقاً كثيرة بين جماعة (البغدادي) وبين قاعدة ( الظواهري).
وأبسط ما يمكن قوله هو انكباب (أتباع الدولة) على قتال الثوار في سوريا، وعلى (استقبال المرتدين المستتابين) في العراق، فيما هم على مرمى حجر من العديد من المصالح الأمريكية والصهيونية، ومع ذلك لم يمسوها بأذى !.
وتكاد تكون مختلف الروابط دائرة في فلك هذه الروابط، وهذا يعني أننا نسلك مسلكاً خاطئاً في الربط، وبالتالي فإننا نتجه نحو تحليل خاطئ ونتيجة خاطئة.

المشروع الجهادي يحمل بين طياته مبادئ وأساسيات الإسلام- بل والأمر كذلك لكل الحركات والدول الإسلامية السنية - ، لكن تفاوت الأفهام والتطبيقات هو ما يؤثر على توجه الحركة والمشروع تبعاً لذلك، ومن هنا تدخل العوامل الأخرى المؤثرة في مسلكه: وهي العوامل غير الظاهرة.

علينا أن ندرك حقيقة الاختلاف بين الأديان، وأن هذا الأمر شئنا أم أبينا هو أحد المحركات والدوافع التي تحرك الدول في هذا العالم لاتخاذ القرارات المختلفة أياً كانت، وأن هناك حرباً حقيقية بين أتباع الأديان المختلفة، سواءً كان الدافع الديني ظاهراً أم لا، إلا أن هذا الأمر موجود بالفعل، ولا يمكن أن يُغفل عنه.

وعلينا أن ندرك أيضاً أن الدين الإسلامي هو أحد تلك الأديان المنافِسة في هذا العالم، وتتم محاربته بأشكال كثيرة من قِبل أتباع الديانات الأخرى: أعني القادة والحكومات على وجه الخصوص، ولهذا الأمر امتداداته التاريخية الطويلة.

كما أن المشروع الإسلامي المثالي: الدولة الإسلامية القوية التي تملك قرارها، وتملك قوة عسكرية، واقتصادية، وتماسكاً داخلياً؛ هذا المشروع مرفوضٌ تماماً من كبرى قوى العالم حالياً، وبالتالي فنحن نتحدث عن مشروع إسلامي محارب ومرفوض.

ما أردت أن أصل إليه هو أن ظهور (دولة الخلافة الإسلامية) بالمظهر السلبي هو عين ما يريده الغرب المناهض للمشروع الإسلامي، وبالتالي فهو يسعى إلى ذلك بالفعل ويسعده تحققه، لأنه يجعل فكرة الخلافة الإسلامية فكرة تلازم الفوضوية والرجوع للوراء.. فكرة تتشح السواد، وتتلذذ بجز الرؤوس، وتستمتع بسيل الدماء.

وظهور الدولة بهذا المظهر له عدة صور واحتمالات:

-          قيام دولة فعلية، تمتلك أمرها وتنظم سياستها الداخلية وفق ما تريد، لكنها معزولة عن العالم الخارجي.

فأما قيام الدولة، فأي قائد يملك سلاحاً وجنوداً بإمكانه أن يحقق هذا الشرط الشكلي، من خلال الجنود المسلحين الذين يجوبون الشوارع بعد القضاء على القوة التي تحاربه سلفاً، والتي سنفترض هنا أنها الجيشان العراقي والسوري.

بالطبع يصعب على (خلافة البغدادي ) أن تمسك بزمام الأمر في سوريا كاملة، والعراق كذلك، لكنها قد تتمكن من إقامة دولة على جزء من سوريا وجزء من العراق، مع محاولات التمدد في كل فترة.. وهذا الخيار – وهو خيار التفتيت الطائفي – خيار متميز لمن يحارب المشروع الإسلامي، فبدلاً من أن تكون لديه دولتان يسكنهما مزيج بين عدة طوائف، ستكون لديه ثلاث دول – وربما أكثر -  كل واحدة منها معروفٌ عنها تمثيل إحدى الطوائف، وهو بهذا يكسب المعركة ليكون الحلم الإسلامي في الخلافة القائمة على الوحدة والاجتماع أكثر بعدا عن الواقع وأقرب للخيال!.

على افتراض وقوع هذا الخيار، وكانت الدولة التي تقوم عليه دولة إسلامية تحقق تعاليم الإسلام بالفعل، فقد يكون خيار بقائها بالنسبة للغرب خياراً ممكنا، مع عزلة عن العالم – على الأغلب - ، خصوصاً إذا كانت لا تقع في مناطق النفط والمصالح الحيوية للغرب في المنطقة ( كأن تكون لها حدود مباشرة مع إسرائيل أو أن تسيطر على مناطق تضر صناعة النفط بشكل غير مباشر ، ونحو ذلك ).

بالطبع هناك الكثير من التحذيرات من التقسيم الطائفي لسوريا والعراق، وقد يقع هذا التقسيم بالفعل وتكون أداته الجماعات الجهادية الحالية، هذا الخيار يعني حرباً وتوتراً دائماً بين الجيران، وكلما كانت هناك حاجة للابتزاز وتحقيق المصالح تم إذكاء تلك العداوة والحرب بينهما، تماماً كما كان يحصل بين العراق وإيران، وما يحصل الآن من إذكاء التوتر بين السعودية وإيران، وهو ما يشكل نوعاً من الابتزاز لأحد الطرفين أو كلاهما!.
-         سيطرة (البغدادي ) على أجزاء من سوريا والعراق، بالشكل الوحشي الذي عُرفت به دولته حالياً.

وهو ما يعني قيام دولة غير معلنة، وغير معترف بها دولياً ، بل وليس لها أي مقومات دولة سوى السيطرة على الأرض، لكنها لا تمس المصالح الغربية، مع وجود حالة اقتتال سواءً مع أي من الجيشين العراقي والسوري، أو مع الثوار، وهذا هو الخيار القائم الآن، وهذا خيار آخر يحقق مصالح الغرب في المنطقة.

فانحصار الحرب في هذه الحدود: العراق وسوريا، وحتى إذا تمددت إلى لبنان، فلا إشكال!.. المهم أن تبقى فوهات البنادق بعيداً عن إسرائيل، وعن أهم المصالح الأمريكية في المنطقة.

وجود هذا الخيار الحالي واستمراره يعني:

·         تشويه المشروع الإسلامي في أعين الشعوب الإسلامية لكونه مشروعاً دموياً.

·         مزيدٌ من الإضعاف للقوى التي تشكل – أو قد يشكل انتصارها تهديداً لإسرائيل وبقية مصالح الغرب وأمريكا خصوصاً في المنطقة -.

·         جعل الدول المجاورة في حالة احتياج دائم للغرب، وأعني بها دول الخليج التي باتت مهددة في أي لحظة بأن تغزوها الأحداث، وهو ما يعني حاجتها للسلاح والتدريب والمشورة الأمريكية، وفي حال الرغبة في قيادة حرب للقضاء على هذه التنظيمات عندما يحين الوقت لذلك، فإنها لن تكون إلا بالأموال الخليجية والعربية بمعنى: ادفع وإلا ستموت! .. بل وربما ترفض أمريكا التدخل بجنودها وتكتفي مثلاً بالمشورة والتخطيط، أو بالضربات الجوية دون خوض أي حرب على الأرض، وبالتالي فإن الجنود الذين سيتم الزج بهم في الحرب لن يكونوا سوى جنود هذه الدول، سواءً كانوا من المتطوعين الذين يفتح لهم المجال حينها، أو كانوا من الجنود النظاميين.
والخلاصة مما سبق، أن دولة البغدادي في الواقع لا تحقق أحلام المشروع الإسلامي، وإنما تحقق في كل صورها وأشكالها أحلام المشروع الغربي، وتهيئ لشكل (شرق أوسط جديد) على الصورة التي تريدها أمريكا والغرب.
أما الأسئلة حول: هل الدعم المخابراتي الغربي يتم بشكل مباشر للبغدادي؟!
أم أنه يقف موقف المتفرج ( المستمتع بالأداء) ، ويحاول إذكاء الأمر وتوجيهه بطرق غير مباشرة؟!
فهنا يبقى سؤالاً آخر، إجابته ليست مكتملة المعالم.
- الأسئلة الأخرى التي تتحدث عن (الفكر)، والذي من خلاله تكسب الدولة أتباعها وجنودها من مختلف دول العالم، هي أسئلة أخرى مختلفة بعض الشيء، وبحاجة إلى سلوك لذات المسلك الذي بدأناه هنا بتوخي الحذر والبعد عن الملتبسات حتى نصل لنتيجة صحيحة.

تعليقات

تدوينات مميزة

الحياة الجامعية (3) : استذكر بمهارة.. وطوع التقنية لصالحك!

كانت جميلة!

الحياة الجامعية.. همسات على الطريق