حكايات الكون



(1)
تتجه الشمس بصفرتها إلى حيث الغرب، لونها يبدأ بالشحوب، تمامًا كذلك المغادر وهو يلوّح بيديه، يتماسك ويغالب دمعته، ويتلوَّن وجهه بغير ما ينبغي أن يكون عليه، تأفل الشمس، وتترك وراءها لحظات للتأمل للمحبين: الشفق بحُمرته يعانق زرقة السماء، ويزخرف أطرافها، وتبدأ الزرقةُ في الاتجاه إلى اللون الداكن شيئًا فشيئًا حتى يغشى الظلام.
 

ومع هروب الشمس أو غروبها تساير ذلك المشهد العصافير، فتراها تجتمع في أسراب وجماعات، وتصدر صافرات الختام المشجية، وكأنها تودِّع يوم العمل الحافل باحتفالات الإنجاز والسعي في الرزق، ويشعر بوداعِها أولئك الذين كانوا حاضرين حين أطلقت تغاريد افتتاح اليوم، المستبشرة بقدوم اليوم الجديد، واقتراب وصول الشمس إلى حيث نقطةُ الشروق.

لا شك أن الأشجارَ والأعشاش هي أعظمُ الفرِحين بذلك الغروب؛ حيث تأوي إليها تلك المخلوقات الصغيرة بعد ارتحال دام نصف اليوم، هي فرصتها الآن لتعتنقها، وتستَرِق السمع إلى بعض أسرارها وحكاياتها الخافتة قبل الخلود إلى السكون وهي فرحة؛ لأنها ترى تلك المخلوقات المسبحة الساعية في الرزق، فهي تؤويها لترتاح، حتى تعدها ليوم عمل وتعب جديد! 

(2)
الشمس سحر وجمال، الشمس ضوء وبهاء، وهيبة ودفء، في أطوارها طور يشدُّك إليها حتى تنسى كل جمال في الكون إلا هي، فلا تنفك عنها ناظرًا متأملاً مسبحًا، وتارة تتعالى حتى تكسوها هيبة تجعل الناظرَ إليها ما يلبث أن يصرف النظر؛ إذ ذاك يصعب أن تعانق عيناك عينيها، وفي طورها الأخير ما تلبث أن تودعَك شاحبة الوجه، ضوءها خافت يحكي انكسارًا.

ولكن عاشق الشمس لا بد وأن تخالطَ محبةُ الليل شغاف قلبه؛ فالنجوم التي تزدانُ بها السماء ما هي إلا أُخيَّات الشمس الكبريات، وهناك القمر المستدير يحدِّث عن الشمس حتى وهي غائبة؛ إذ يعكس ضَوْءَها بلونٍ أبيض، يزهو به وسط ذلك السواد الذي يعم السماء، إلا من تلك النجوم التي تظهر كالرُّقَط في أديم السماء. 
 

(3)
في الليل:
 السكون هو مظهره العام، حتى وإن رآه البعض وقتًا للصخب إلا أنهم ما كان لهم أن يخرقوا طبيعته العامة سوى في محيطِهم الصغير، وتظل هيبة الليل بسكونه، حتى إن الأصوات الخافتة فيه تغدو مسموعة واضحة، وربما أرَقْتَ جفنًا أو أيقظت نائمًا ألِف النومَ في سكون لا يشوبه أدنى شائبة.

 هناك صوت الرياح وإن كانت هادئة لطيفة، إلا أنها في سكون الليل تغدو خارقةً لقواعده، كاسرة لقوانينه، وكذا تلك الدوابُّ التي ألِفت الحركةَ ليلاً، فمع قلّتها إلا أنها تضع بصمةً لم تكُنْ لتضعها بالنهار حيث الكل يعمل، وكل الأصوات مختلطة.

في الليل شعلة المحبة تتّقد، وكذا مشاعل الإخاء وجمرات الشوق، وتتهادى العبرات والعبارات، وتتحرك الذكريات في تلك القلوب المحبَّة، كل مانعات النوم تعمل حينها بفاعليةٍ حين تلفُّهم فرشهم، لكن ظلام الليل يستر الدمعات التي تمطر الوسائد، عدا أن سكونَه يفضح تنهيداتهم وأنينهم، ولربما فرَّ أحسنهم حالاً إلى حيث قلمُه، فأفرغ دمعاته مكتوبةً على وريقاته، حينها قد يحالفه الحظُّ فتلتقي أجفانُه بالنوم!


في الليل تتجافى جُنوبٌ عن المضاجع، وأنفسٌ تدعو ربها خوفًا وطمعًا، وأرضٌ تشرفُ بجباه متطهرة تخرُّ عليها، وسكونٌ يقطعه صوت منسجم معه، يكسوه خوف ووجل، وخشوع يتغنى بالقرآن، وبكاءٌ تغالبه تلك النفوس المؤمنة، حيث نام المخلوقون، فقاموا لرب الكون القيوم، الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، إنه قطع لروتين الحياة السائد، وقطع لظلام الكون بنورٍ قد خالط أفئدتهم، ذلك أنهم مختلفون ليسوا كالآخرين!

    ....

تم النشر سابقاً في شبكة الألوكة:

رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/54523/#ixzz3E9dTo0qa

تعليقات

تدوينات مميزة

الحياة الجامعية (3) : استذكر بمهارة.. وطوع التقنية لصالحك!

كانت جميلة!

الحياة الجامعية.. همسات على الطريق