أماني الموت.. أم أحلام الحياة؟!


لبعض الوقت وجدتني أردد تلك الأبيات متمثلًا ما فيها متمنيًا إياها حقًّا:
“ألا موتٌ يباعُ فأشتريه ** فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي ** يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصرتُ قبرًا من بعيد ** وددت لو أنني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر ** تصدق بالوفاةِ على أخيه!”، (الأبيات للوزير المهلبي).
تقلقني أعمالي، لكن لحظات التضجر تصحبها لامبالاة تجعلني أقول: الأيام القادمة ستكون مثل الماضي… لينقطع النفس، ولأتوقف عما أنا فيه من خطأ وخطل، وليتوقف ما أراه وما يخيل إلي أني أقاسيه في الحياة.
لهذه الأماني والتخيلات وقفات مع الشرع، ولها حكمها ولا شك؛ فأمنيات الموت قد تتحول إلى حدثٍ خطير ينهي الإنسان به حياته، وهو ما ينقله من تعاسة إلى تعاسة ومن ضيق إلى ضيق!: “من قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة”، وفي الأحاديث جاء التصريح بالخلود في النار لقاتل نفسه.
يواجه الإنسان رغبة الموت (بقتل النفس) مع تحريمها بحل آخر: الدعاء على نفسه بالموت، ولكن هذا الخيار هو الآخر مقنن بحديث شريف، وما ألطف هذا الحديث وما أبعد مغازيه: “لا يتمنَّ أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله. وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا”، (الحديث رواه مسلم في صحيحه).
نُهي عن تمني الموت، والدعاء على النفس به، إلا دعاءً عامًا جاء في حديث آخر بأن يدعو الله عز وجل أن يختار له الخير سواءً كان حياة أو مماتًا.
لكن الكلمات التي تلفت الانتباه كثيرًا بعد ذلك هي الكلمات التي تحبب الحياة للإنسان، لكنه ليس حبًا لأجل الدنيا، وإنما هو إطالة مكث في الدنيا لأجل الآخرة.
“إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله”، إشارة لحقيقة من حقائق الحياة الدنيا، وتصوير لحقيقة وجود الإنسان في الدنيا: أنت هنا لتعمل.. وأنت بحاجة إلى العمل!
وهي صورة تنقلك أيضًا نقلة سريعة إلى ما بعد الموت؛ لتخبرك بأنه إذا حصل لك الموت الذي تمنيته: هناك ما ستتحسر عليه؛ ستتحسر على “انقطاع العمل”، ستتوق إلى العودة من جديدٍ لتتزود منه ما يكفيك لأن تكون في حالة أفضل من تلك التي لقيتها، من أي الفريقين كنت.
“إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله”، إشارة إلى استثمار الأوقات خير استثمار؛ فالعمر الحقيقي هو عمر الإنجاز والعمل، وليس مجرد حساب المسافة بين تاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة؛ فهو استثمارللعمر بأن يعمل الإنسان أكثر ما يمكن عمله، قبل أن ينقطع نفسه، وينقطع معه عمله.
وهي إشارة إلى الإنسان: لا تنتظر أعمال الآخرين، لا تطمح لأن يبنوا عنك مسجدًا، ولا أن يحفروا بئرًا يدر عليك أجرًا بعد وفاتك، قد يمنّ الله عليك بأوفياء، لكن ذلك مما لا يحدث للجميع.
 العمل الذي تتأكد منه: هو ذلك الذي تعمله في حياتك: “وقدموا لأنفسكم”.
على أن انقطاع العمل قد تحدد استثناؤه في حديثٍ آخر: “إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفَعُ به، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له”.
إليك هذا الحديث العظيم، وقد رواه ابن حبان في صحيحه: “قدِم على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- رجلانِ مِن بَلِيٍّ، فكان إسلامُهما جميعًا واحدًا، وكان أحدُهما أشدَّ اجتهادًا مِن الآخَرِ، فغزا المجتهدُ فاستُشْهِدَ، وعاش الآخَرُ سنةً حتَّى صام رمضانَ ثمَّ مات، فرأى طلحةُ بنُ عُبيدِ اللهِ خارجًا، خرَج مِن الجنَّةِ؛ فأذن للذي توفى آخِرهما ثم خرج فأذن للذي استشهد ثم رجع إلى طلحةَ فقال: ارجِعْ فإنَّه لم يَأْنِ لك فأصبَح طلحةُ يُحدِّثُ به النَّاسَ، فبلَغ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فحدَّثوه الحديثَ وعجِبوا فقالوا: يا رسولَ اللهِ كان أشد الرجلين اجتهادًا واستُشهِد في سبيلِ اللهِ ودخَل هذا الجنَّةَ قبْلَه!
فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “أليس قد مكَث هذا بعدَه بسنةٍ؟”،
قالوا: نَعم،
قال: “وأدرَك رمضانَ فصامه وصلَّى كذا وكذا في المسجدِ في السَّنةِ؟”،
قالوا: بلى،
قال: “فلَمَا بينهما أبعدُ ممَّا بينَ السَّماءِ والأرضِ”.
هو الإسلام إذن دين حياة لا موت! دينٌ يرغبنا في الحياة في سبيل الله، كما يحثنا على التضحية بالموت في سبيل الله إن لزم الأمر؛ حياة في الدنيا لأجل الآخرة، حياة ملونة بألوان العمل ونبذ طول الأمل والكسل، حياة المتأهب للوداع، عابر السبيل.

تعليقات

تدوينات مميزة

الحياة الجامعية (3) : استذكر بمهارة.. وطوع التقنية لصالحك!

كانت جميلة!

الحياة الجامعية.. همسات على الطريق